الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم .
فهذه وقائع وخواطر، سطرتها أثناء إقامتي في جزر إندونيسيا للدعوة في سبيل الله، وكانت في الأصل عبارة عن مذكرات شخصية ليست معدة للاطلاع، فلما طلب مني كثير من الأخوة طلابِ العلم قراءتها ليستشفوا ما بداخلها مما يكشف عن بعض مكنون أحد بلدان (النمور الستة), أحببت أن أجعلها موضوعاً يتناول جوانبَ من حياة هذه الشعوب الملاوية، وإن كان الذي سأذكره ليس إلا نزراً يسيراً من حياة هذا المجتمع الكبير؛- ذلك لأنني لم أذهب صحفياً ولا باحثاً وإنما ذهبت داعيةً،-من باب المناصرة لهم لما يعانونه من بطش النصارى.
وكذا لفتاً لانتباه القائمين على أمور الدعوة في هذه البلاد من علماء المسلمين الربانيين الذين يقلقهم تدهور أحوال المسلمين في العالم أجمع وفي شرق أسيا خاصة ليكون لهم لبنة أولية ينظرون من خلالها على أوجه المعاناة والحاجة والإعواز للشعب المسلم في هذه الجزر.
وكذا تلافياً لأي قصور في العمل الدعوي إن وجد مستقبلاً.
والله ولي الهداية والتوفيق،،،
وصلنا إلى جاكرتا استقلينا سيارة أجرة إلى مقر إقامتنا في وسط العاصمة حيث انطلقت بنا السيارة وسط كثافة من الأشجار والأنهار - أنهار تسر الناظر- ومناظر مطهَّمَة تشغل الخاطر، وشجر أخضر ناضر، وجو غائم جميل، إنها بلاد في منتهى الروعة.هذه إندونيسيا, أما حصيلة هذه الرحلة فستجدونها في السطور القادمة فهلموا لتعيشوا معي هذه الرحلة التي دامت أربعة آلاف وثمانين ساعة..
طريقـة دعـوتنا :
كانت طريقة دعوتنا تتمثل في دخولنا إلى قرى المسلمين فرادى فإذا دخلنا قرية من القرى عرضنا دعوتنا لمن نراه ذا مكانة في القرية ثم نتوجه مع هذه الشخصية إلى رئيس القرية لنعرض دعوتنا ونتوًخى منه السماح لنا بالدعوة في القرية وقد نصطحب معنا هدية نعطيها له وذلك إنزالاً للناس منازلهم ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا" أخرجه أبو داود.
وقد وجدنا تجاوباً كبيراً من رؤساء القرى التي دخلناها وكان الكل متعاوناً، وإذا كان كذلك فإن أول خطوة نقوم بها هي وضع إعلان في المسجد نوضح فيه طريقة دعوتنا والتي تتمثل بإقامة دورة شرعية لمدة ثلاثة أسابيع في العلوم الشرعية ويكون تقييد الدروس فيها إجبارياً انطلاقاً من حديث " قيدوا العلم بالكتاب " أخرجه الطبراني (1).
ثم نختبرهم كل يوم جمعة وفي نهاية الدورة نختبرهم اختباراً عاماً لكل ما تلقوه خلال الدورة ثم بعد طلوع نتائج الاختبارات يتم توزيع الهدايا على الجميع مع ملاحظة تمييز الأوائل بالهدايا القيمة.
وطبعاً نقوم نحن بتوفير الأقلام والدفاتر لكل الطلاب مع توفير طعام العصر لكافة الملتحقين بالدورة.
وبرنامج الدورة يكون على النحو التالي :
في الصباح الباكر ساعة لدرس القرآن تلقيناً واستماعاً.
وبعد الظهر ساعة ونصف لغة عربية.
وبعد العصر حتى المغرب درس شرعي إما في الفقه أو في التوحيد أو في السيرة أو في الآداب والأخلاق، ويقسم الوقت على درسين بينهما استراحة لمدة عشر دقائق يتناول خلالها الطلبة طعاماً خفيفاً.
وإذا انتهت الدورة الشرعية في القرية، ووجد أن هناك طلاباً جدداً أبدوا رغبتهم في الالتحاق بهذه الدورات فلا مانع لدينا من البقاء في هذه القرية حتى نتيقن أنه لن يأتي طلاب جدد.
ولا مانع أن يلتحق طلاب الدورة الأولى في الدورة الثانية ولكن بدروس جديدة فتصير الدورة مكونة من حلقتين حلقة للقدامى وحلقة للجدد وقد نختار صفوة الطلبة لإرسالهم إلى المدرسة الشرعية في جزيرة أخرى لتلقي نفس الدروس التي أخذوها في قريتهم ولكن بشكل أكثر قوة.
وقد كانت الدعوة بطريقة الدورات لها الأثر الواضح على الطلاب وحفظوا كثيراً من مسائل الدين وتغير مظهرهم إلى مظهر عليهم شيم الصالحين ونورت وجوههم وبدت أخلاقهم في تحسن، وهذا أفضل وأجدى مما لو كانت مجرد محاضرات فإن فائدتها المرجوة قليلة ومع ذلك لم نحرم القرى من المحاضرات متى ما أتيحت لنا الفرصة في بعض الليالي حيث كان أصحاب التبليغ يملئون الفراغ بعد صلاة المغرب بمحاضراتهم يساعدهم في ذلك دعاة جاوه.
العربي لا سواه :
للعربي مكانة خاصة كبيرة في قلب الشعب الإندونيسي حيث يظل الناس ينظرون إلى العربي بعين الإعجاب وسبب ذلك والله أعلم بأن القرآن نزل بلغة العرب، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم عربي .
بين القرى
لقد أحسن رؤساء القرى الذين التقيناهم استقبالنا بالرضى ووافقوا لنا على إقامة دوراتٍ شرعية بل وامتدحوا عملنا وأبدوا استعدادهم لتسهيل مهمتنا، وقد كان ما كان فجزاهم الله خيراً، وكان أروع ما سمعنا من كلامهم كلمة رئيس قرية ساكنوسا الأستاذ / لاريئو، قال لي بعد أن طلبت منه السماح لي بإقامة دورة شرعية في قريته : لامانع لدينا نحن أعمارنا 60 سنة أو 70 سنة ثم نرحل من هذه الدنيا ولا ينفعنا إلا ما قدمنا من أعمال صالحة (فحوى كلامه) فصدق لا فظ فوه، كأنه يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : عمر أمتي بين ستين سنة إلى سبعين " أخرجه الترمذي من حديث أبى هريرة.
ونحن بدورنا شكرناه وشكرنا كل من تعاون معنا متمثلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) أخرجه أبو داود.
ثم سلمناه هدية عبارة عن مصحف مترجم باللغة الإندونيسية.
حديث على الشاطئ:
وذاك رئيس قرية سيبا عندما وجدته مع أحد حاشيته على شاطئ البحر فتوقفت قليلاً مع مترجمي للحديث معهما وقد سعدا بجلوسنا معهما فتحدثنا عن هموم المسلمين والإسلام في هذه البلاد وهذه الجزر بالذات، وعن انصراف شباب القرية عن المساجد مع ما يحيطهم من خطر عظيم من قبل الأعداء.
وقد أبدوا تأسفهم لحال شبابهم وقال لي رئيس القرية في نهاية الحديث: سوف أواظب أنا شخصياً على حضور محاضراتك إن شاء الله، وفعلاً ما من محاضرة ألقيتها بعد ذلك اليوم إلا وهو في الصف الأول.
النساء في المساجد :
النساء في إندونيسيا يصلين في العادة في المساجد مع الرجال فيصلي الرجال في الأمام ويصلي النساء في الخلف، وبعض المساجد تصلي النساء بدون حائل وربما دخلن من باب واحد مع الرجال بل ربما توضأن معهم من مكان واحد، وهذا الأمر ينبئ بشيء مهم وهو ضعف الدعوة في هذه البلاد، وضعف الدعاة الذين لا ينبهون لهذا الأمر، وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الأئمة المضلين وجعل الخوف منهم كالخوف من الدجال كما في رواية عند الإمام أحمد.
إلا أن الأمر الجيد في النساء إقبالهن على سماع المحاضرات وقد لاحظنا نحن ذلك فعندما نقيم محاضرة يتوافد النساء إلى المسجد ليصلين بل عندهن استعداد لتلقي العلم الشرعي إذا توفرت الظروف المناسبة لذلك.
شركيات:
كثيرة هي الأمور والاعتقادات الشركية عند شعوب هذه الجزر، ففي قرية موريللا مثلاً استضافنا أحد الناس في بيته في الوقت الذي كان فيه شباب القرية وأطفالها ونساؤها ينظرون إلينا ليتعرفوا على العرب، وكان بصحبتي أحد الزملاء فوجدنا مع صاحب البيت كتباً تناقض التوحيد وورقة هيكل سليمان الشركية فبيّنّا له خطورة هذه الكتب عليه في الدنيا والآخرة، والمفارقة العجيبة أن هذه الأسرة وهي مكونة من أب وأم وعدد من الغلمان شاركوا في القتال ضد النصارى واحرقوا بيوتهم، ومن ثم طردهم من أحد الجزر، وقد أرونا أحد السيوف التي قاتلوا بها النصارى وبه آثار دم، إنني أوجه هذه المفارقة لكل من بيده أزمة الأمور في إرسال الدعاة إلى هذه الجزر، وأوجه هذا السؤال إليهم: هل يقبل الله سبحانه وتعالى جهاد هذه الأسرة وغيرها مع ما هم عليه من الشركيات، وماذا نقول لله جل وعلا إذا سألنا عنهم ونحن قادرون على الوصول إليهم؟ إنها والله حسرة وألم يكتنفان قلوبنا:
أولها : حسرة لحال هذه الشعوب لو ماتت على الشرك.
ثانيها: ألم في قلوبنا أن نترك هؤلاء يقبعون في براثن الشرك مع مقدرتنا على إخراجهم منها، فالله المستعان.
وهكذا وجدنا في عدة أماكن، بل في أكثر من جزيرة قبوراً تزار، وبعضها قبور كبيرة مضخّمة والعياذ بالله منها ما يقع على شعاف الجبال، يُعتقد فيها اعتقادات مناقضة للتوحيد.
وهنا قصة أذكرها لأحد الدعاة الإندونيسيين عندما مكث في قرية ووجدهم يعتقدون في ماء راكد على حجر فظن سكان هذه القرية أن إبعاد هذا الماء سيسبب فيضاناً يغرق القرية مع أنه ماء مطر استقر في هذه النقرة على الحجر فحاول الداعية أن يبين لهم أن هذا الاعتقاد ليس صحيحاً ثم قام جزاه الله خيراً: بإزالة الماء فتعجبوا أنه لم يحصل شئ !!
ذات أنواط :في قرية هايا دخل الإسلام في سنة 1626م، وهذه القرية من القرى المحافظة على دينها بالنظر إلى قرى أخرى مع مافيها من مخالفات شرعية عند النساء وأمور شركية.
فهذه مقبرة (ليسي لالا) يعظمونها ويعتقدون فيها ما يعصر له القلب ألماً وكمداً، ومن ذلك أنهم إذا أرادوا الجهاد ذهبوا إلى هذه المقبرة ووضعوا أسلحتهم ودعوا ظناً منهم أن الأسلحة صارت فعاّلة، فإذا فعلوا ذلك ذهبوا إلى الجهاد.
الدرع الواقي !
مما وجدته في هذه القرية أن بعض شبابها لبَّس عليهم الشيطان وأعوانه باستحبابه لهم ارتداء ملابس مكتوب عليها مقالات شركية وملطخ عليها بشيء من الدم زعم لهم أنها تقي من رصاص البندقية، وقد وصلت إلى هذه القرية بعد أن أقنع دعاة جاوه هؤلاء الناس بشركية هذا العمل فجزاهم الله خيراً، ولم يكن دوري بعد إلا أن أكدت لهم بطلان هذا الاعتقاد. والله المستعان.
العادات البدعية :
اعتادت شعوب هذه الجزر استخدام طبلة كبيرة في المساجد بضربها ضرباً شديداً إشعاراً بدخول وقت الصلاة، ويبلغ قطر الطبلة في بعض المساجد خمسة أشبار .
عوائد يوم الجمعة :
ومن بدع المساجد عندهم في يوم الجمعة حيث تتم طرائق عرفية للجمعة بصعود الخطيب على المنبر ويبدأ ذلك بضرب خفيف على الطبلة على نغمة ومقامات معينة نزول ثم طلوع في الصوت ثم يقف المؤذن وسط المسجد أو مؤخرته فيؤذن,ولاشك أن هذه الطرائق التي تتم ليس عليها دليل باتفاق المذاهب.
ولعلهم تعلموها من بعض الدعاة الصوفيين الذين هاجروا إلى هذه البلاد قبل مئات السنين وأثّروا فيهم ونشروا الإسلام بهذه الصورة، وشيء أفضل من لا شيء فمسلم مبتدع أفضل من كافر.