ما زال قيام أمة أمريكية بمعزل عن الهويات العرقية-الإثنية أمرا يحتل مكانة عالية على أجندة الكثير من مسلمي اليوم، بل هو يتسم بأهمية خاصة بالنسبة للشباب الذين سيصبحون القادة الجدد للجماعة، ولهذا فسوف تكون العقود القادمة حاسمة باعتبار أن المسلمين في الولايات المتحدة سوف تتضح أمامهم الصورة بشأن أوضاعهم واحتياجاتهم وضرورة أن ينظموا صفوفهم لكي تسمع أصواتهم في غمار الادعاءات المتنافسة لمجتمع أمريكي متعدد الأعراق" ..
بهذه الفقرة التي تستشرف آفاق مستقبل المسلمين في أمريكا ختمت الباحثة الأمريكية جين سميث Jane I. Smith كتابها Islam in America الصادر قبل 11 سبتمبر وبالتحديد عام 1999، والذي قام بترجمته محمد الخولي في إطار "المشروع القومي للترجمة" الصادر عن المجلس الأعلى –المصري- للثقافة عام 2005 تحت عنوان "الإسلام والمسلمون في أمريكا".
لتعارفوا..منهجهم أم منهجنا
يأتي كتاب الباحثة الأمريكية في إطار سلسلة التعريف بالأديان الكبرى في أمريكا المعاصرة والتي تتولى أمرها مطبعة جامعة كولومبيا، وبالرغم من الطابع التعريفي للكتاب والموجه بشكل أساسي إلى القارئ الأمريكي، إلا أنه يعد بمثابة مقدمة لا غنى عنها للدخول إلى عالم الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة للمسلمين الباحثين عن معرفة أحوال الأمة الإسلامية بامتداد الجغرافيا والتاريخ كجزء من الاهتمام الواجب بأمور المسلمين فـ "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". ويأتي الكتاب أيضا متسقا مع سمة الحضارة الغربية في بنائها لمواقفها وأفعالها تجاه الآخر بناءا على أرضية معرفية بذلك الآخر يقوم على إعدادها متخصصون على أعلى مستوى من التخصص، سواء أكان هذا الآخر يقيم بعيدا عنهم، أو بين ظهرانيهم، وهو درس نحتاج إلى التذكير به مرارا كلما مرت بنا مناسبة "معرفية" مثل التي بين أيدينا.
ولأن "الرائد لا يكذب أهله" فإن جين سميث أستاذة الدراسات الإسلامية في مجمع هارتفورد العلمي في ولاية كونيكتكت، وعضو لجنة العلاقات بين الأديان بالمجلس القومي للكنائس في الولايات المتحدة قد صدقت أهلها وقدمت عرضا دقيقا وأمينا –بحسب رؤيتها- ومركزا إلى حد كبير للإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة.
بديهيات معرفية وتاريخية
بينما كانت جين سميث تلقي إحدى محاضراتها التعريفية حول الإسلام..إذا بإحدى السيدات تسألها في براءة: أين يقع الإسلام؟، وهو السؤال الذي ينم على أن الكثير من الأمريكيين لا تزال لديهم جهالات وأفكار غامضة حول الإسلام والمسلمين في أمريكا، بالرغم من أن الإسلام كما تقول سميث صار واحدا من الأديان الثلاثة الكبرى في أمريكا، وأنه صار من الصعب ألا يلاحظ المرء وجود المسلمين في المدن الأمريكية الكبرى منها والصغرى على حد سواء، ومن هذا المنطلق تأتي أهمية هذا الكتاب التعريفي، والذي ربما يحوي كما يقول المترجم "أمورا بديهية للذين يدينون بالإسلام ويستخدمون اللغة العربية" خاصة في الفصلين الأول والثاني من الكتاب، حيث يتناول الأول: الإسلام العقيدة والشريعة فيتحدث عن عناصر الإيمان "الخمسة !"، والأركان الخمسة. أما الثاني فيتناول: الذين ساهموا في نشأة وتطور الإسلام ويشمل الحديث عن النبي محمد ونزول القرآن، والسابقين إلى الإسلام (الصحابة)، والتطورات الأولى للجماعة المسلمة بخاصة في الجانب الفكري من نشأة المذاهب والتصوف وتطور الفلسفة وعلم الكلام، وبالتوازي مع التطورات الفكرية يتم استعراض سريع للتطورات السياسية لبلاد الإسلام وارتباطها بانتشاره، حتى يصل الاستعراض إلى تعرض العالم الإسلامي للاستعمار الغربي، وما أثمرته من آثار وردود أفعال على المستوى السياسي الفكري خلال القرن العشرين، من سقوط الخلافة وظهور الكمالية، إلى نشوء حركات الإصلاح والتجديد في مصر من محمد عبده إلى حسن البنا، وفي باكستان وإيران من المودودي إلى الخوميني.
الإسلام يذهب إلى أمريكا
في الفصل الثالث من الكتاب تتناول جين سميث تطور الوجود الإسلامي في أمريكا والذي تشير إلى أن هناك بعض الشواهد غير المؤكدة على أنه زامن أو ربما سبق اكتشاف كريستوفر كولومبس لأمريكا عام 1492، لكن المعلومات المؤكدة أن الهجرات الأولى إلى أمريكا قد جاءت من بلاد الشام في الفترة من 1875 إلى عام 1912، وجاءت الموجة الثانية من الهجرة بعد سقوط الخلافة العثمانية أما الثالثة فكانت في الثلاثينيات وكانت معظمها هجرات محدودة من أقرباء من سبقت لهم الهجرة، أما الموجة الرابعة فكانت بين عامي 1947 و1960، واستمرت فيها هجرات المسلمين من الشرق الأوسط إضافة إلى شبه القارة الهندية والبلقان والاتحاد السوفيتي، أما الموجة الأخيرة فتبدأ بنهاية الستينيات من القرن العشرين وزادت فيها الهجرة بشكل كبير بسبب تطور قوانين الهجرة في أمريكا نفسها، إضافة إلى عدد من الحروب والثورات التي شهدها العالم الإسلامي.
وفي عام 1914 أسس عدد من التجار الشوام أول مركز إسلامي في أمريكا وتحديدا في ميتشجان سيتي بولاية إنديانا والذي أعيد تنظيمه عام 1924 باسم الجمعية العربية الإسلامية الحديثة، بعد ذلك تستعرض الكاتبة انتشار وتنامي الوجود الإسلامي ممثلا في المساجد والمؤسسات والتجمعات الإسلامية في كل من نيويورك وشيكاغو وكاليفورنيا وديربورن ميتشغن، ثم في كوينسي ماساشوستس وهي المدن والولايات التي شهدت المظاهر الأولى للوجود الإسلامي إضافة إلى منطقة الغرب الأوسط.
موزايك الوجود الإسلامي في أمريكا
بعد ذلك تستعرض الكاتبة أشكال الوجود الشيعي في أمريكا ما بين إثناعشرية وإسماعيلية ودروز مع التعريف بأصل كل طائفة منهم بوجه عام وعلاقتها بالجسم العام للوجود الإسلامي. بعد ذلك تتحدث جين عن المتحولين إلى الإسلام سواء المتحولين من أصول انجليزية أو إسبانية أو من الأمريكيين الأصليين والأسباب المختلفة لتحولهم، والمؤسسات التي صارت تعبر عنهم وبخاصة ذوي الأصول الإسبانية مثل الرابطة اللاتينية لسلمي الأمريكتين (ألما) والتي تسعى لنشر الإسلام بين الأمريكيين الناطقين بالإسبانية.
بعد ذلك تتحدث الكاتبة عن المتحولين إلى الصوفية والتي باتت – إلى جانب عدد من النحل والملل الروحية- تجتذب العديد من الأمريكيين الباحثين عن الإشباع الروحي والنفسي وهو الأمر الذي نبه إليه الشيخ الغزالي في كتابه الرائع والمغمور في آن "مستقبل الإسلام خارج أرضه وكيف نفكر فيه"، وتتحدث الكاتبة عن أهم رموز وحركات الصوفية الأمريكية من حضرة عنايت خان، وإدريس شاه إلى جماعة رفاق باوا محيي الدين في فيلادلفيا، مرورا بطريقة نعمة الله الصوفية الشيعية التي أسسها وقادها الدكتور جواد نوربخش. وفي ختام الفصل الثالث تشير إلى وجود الطريقة الأحمدية في أمريكا الشمالية والذي بدأ منذ عام 1920 بقدوم مفتي محمد صادق والذي أنشأ جمعية للحفاظ على الإسلام الأمريكي وشرع في العام التالي في إصدار دورية "شروق الإسلام". المهم أن الكاتبة في كل تلك الملامح تصف بوعي مدى بعد وقرب هذه الطريقة أو تلك عن الجسد الإسلامي العام.
الإسلام والزنوجة..إشكالية أمريكية
تفرد الكاتبة بعد ذلك الفصل الرابع للحديث عن الإسلام في المجتمع الأفرو- أمريكي والذي يبدأ بالحديث عن عشرات الآلاف من الأفارقة الذين اختطفوا من غرب أفريقيا ليباعوا رقيقا في أمريكا، والذين كانت نسبة المسلمين بينهم لا تقل عن 20%، وبعد قرون من الظلم والاضطهاد والعبودية ومحو الهوية، خرجت أجيال من الزنوج أو المولدين إلى الحرية مرة أخرى لتبحث لها عن هوية، تؤكد فيها اعتزازها بزنوجتها، ذلك الاعتزاز الذي ازداد حتى انقلب عنصرية مضادة لعنصرية البيض، ومن هنا نشأت أخلاط من الحركات التي مزجت بين أوهام قريبة من الإسلام بشكل أو بآخر بداية بحركة المعبد المغربي التي أسسها نوبل درو علي عام 1913، مرورا بأشهر تلك الحركات على الإطلاق "أمة الإسلام" ومؤسسها والاس فارض ومن أشهر زعمائها إليجا محمد ومالكولم إكس، وما حدث في تلك الحركة من تصدع وانشقاق صاحب اغتيال مالكولم إكس (أو مالك شاباز) عام 1965 ثم وفاة أليجا محمد عام 1975 وهو ما أدى إلى ظهور جناحين أحدهما برئاسة لويس فرقان ويسير على نفس الأفكار "أمة الإسلام" وإن بشكل مخفف، والتيار الآخر ويقوده والاس محمد (أو وارث دين محمد) والذي قاد سفينة قيادة الحركة إلى طريق الإسلام بشكل متدرج. بعد ذلك تناولت الكاتبة عددا من الحركات الطائفية الأفرو-أمريكية والتي تعترف الكاتبة أنها متهمة من المسلمين بأنها بعيدة عن الحدود المقبولة إسلاميا.
مسلمو أمريكا..مشكلات واقع مختلف
في الفصلين الخامس والسادس من الكتاب تتناول جين سميث الإشكاليات التي تواجه المسلمين في المجتمع الأمريكي، فتفرد الفصل الخامس لمناقشة مشكلات المرأة والأسرة الأمريكية المسلمة مثل أدوار وهوية المرأة المسلمة التي ترى أنها سوف تصعد إلى صدارة اهتمامات المجتمع، كما تتناول قضايا الزواج والطلاق خاصة زواج المسلم من غير المسلمة وما ينتج عنه من مشكلات على الجانبين، ومشكلات العلاقة بين الزوجين، ثم تتناول إشكالية الأجيال الجديدة من الأطفال والشباب ومشكلة رعاية المسنين. أما الفصل السادس من الكتاب فيتناول مشكلات حياة المسلم في المجتمع الأمريكي، مثل مشكلة التعليم والاقتصاد والتغذية والصحة والعطلات والمنتجات الإسلامية والمشكلات الشخصية وما يطرح لها من حلول إسلامية، وفي كل تلك الإشكاليات سواء داخل الأسرة أو في فضاء المجتمع تتصارع أفهام متباينة للدين، مع قيم وعادات جاء بها المهاجرون من بلدانهم، مع قيم وعادات يواجهونها في مجتمع المهجر.
أما الفصل السابع من الكتاب فيتناول الإسلام (كدين) في الحياة العامة، فتتناول تحديدا قضية المساجد وإنشائها ومشكلة توفير أئمة ووعاظ لها، وما يترتب على هؤلاء في مجتمع المهجر من مسئوليات ربما لا يضطلعوا بها في بلدانهم، ومن ثم ما يحتاجون إليه من كفاءات ومسألة إعداد هؤلاء الأئمة للاضطلاع بتلك الأدوار، ثم مسألة نشر الدعوة ومدى تأثر تلك الدعوة بأفكار مشرقية والدعوة وانتشارها في السجون، وفي نهاية الفصل تتناول المنظمات الإسلامية وتاريخ تأسيسها وأهم تلك المنظمات مثل الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية (إسنا) واتحاد الرابطات الإسلامية (فيا)، وغيرها، ومشكلة المنظمات المعبرة عن قومية معينة، والمنظمات العابرة للقوميات، وفي ختام الفصل تتناول تصاعد الإسلاموفوبيا ونشوء عدد من المنظمات الإسلامية لمكافحة التحيز ضد المسلمين مثل مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير).
التطلع نحو المستقبل
في هذا الفصل الختامي المعنون بـ"التطلع نحو المستقبل" تتناول الكاتبة عددا من الإشكاليات التي تحتاج إلى اجتهاد من المسلمين لحلها مستقبليا، ومنها مسألة السلطة المرجعية في المجتمع الأمريكي المسلم ويرتبط بها قضية القيادة في المؤسسات الإسلامية وإعدادها وقضية وحدة الكيانات الإسلامية والتي تيسر وجود مثل تلك المرجعية، وهناك أيضا قضية الدور السياسي للمسلمين في أمريكا والجدل حول أيهما أولى العزلة لحماية الهوية أم الاندماج والحوار مع ما يكتنف الحفاظ عليها من مشاق، على أنه جدل أرى أن المسلمين في أمريكا خاصة وفي الغرب بشكل عام لم يعودوا يملكون ترف الحديث عنه بعد 11 سبتمبر وما أحدثته من تغيرات، وصدق الرسول القائل "إن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".